وضع الكاتب عنوانا فرعيا لكتابه هو "الفلسفة الحديثة والمعاصرة" إذ أكمل بحثه بنفس الطريقة التي اتبعها في الجزء الأول وهي عرض لمختلف التيارات الفلسفية في إطار خلفية تاريخية توضح الإطار الذي نمت فيه هذه الآراء الفلسفية، وهو يكمل هذا العرض انطلاقا من النقطة التي توقف فيها في الجزء الأول، أي ابتداء من نهاية العصور الوسطى وبداية النهضة الأوروبية.
لكن الكاتب يعيد، في خاتمة هذا الجزء الثاني، التأكيد على ما طرحه في الجزء الأول، وهو أنه خصص عرضه بالكامل لحكمة الغرب ولم يتناول "التأملات الشرقية" لاعتبارين اثنين، أولهما أن العالمين الشرقي والغربي تطورا كل بمعزل عن الآخر. أما الثاني، وهو المهم في نظر الكاتب، هو "أن التراث الفلسفي الغربي يختلف في جوانب أساسية عن تأملات العقل الشرقي، فالحضارة اليونانية هي وحدها التي سارت فيها الحركة الفلسفية مع التراث العلمي جنبا إلى جنب، وهذا ما أضفى على الانجاز اليوناني طابعه المميز، بل إن هذا التراث المزدوج هو الذي شكل حضارة الغرب".
إلا أن هذه التأكيدات اعترض عليها مترجم الكتاب بشدة وهو بصدد تقديمه للكتاب، معتبرا أن هذين الموقفين يثيران العديد من الاعتراضات وهو الشيء الذي خصص له جزء غير هين من مقدمته للكتاب.
بالفعل يثير هذا الكتاب العديد من الاعتراضات، سواء في فهمه لتوجهات التيارات الفلسفية، وتحليله للخلفيات التاريخية التي نمت فيها هذه التيارات، وكذلك درجة الاهتمام الذي يناله فيلسوف أو تيار فلسفي على حساب تيارات وفلاسفة آخرين، ولعل ابرز مثال على ذلك هو الحجم الذي شغلته التجريبية الانجليزية على حساب مدارس أخرى.
لم يشذ راسل عن القاعدة أثناء تناوله للماركسية، على اعتبار أن الماركسية فلسفة لا يمكن تناولها بطريقة محايدة، فالذين يعتبرون أنه ينبغي المحافظة على المجتمع الذي يعيشون فيه ويدافعون عن النموذج الديمقراطي للبرجوازية، يكيلون أقذع الشتائم للماركسية، ويبحثون بجهد عن أي ممارسة خاطئة تمت خلال عهد الاتحاد السوفياتي للنيل منها، إلى درجة أن الكاتب يستخدم جملا من قبيل "التعاليم الماركسية الرسمية" وهي عبارة مناقضة لذاتها إذا كنت بصدد تحليل فلسفي، لأن التعاليم الماركسية شيء والتطبيقات الرسمية لها في دولة من الدول شيء آخر.
لكن رغم ذلك، وأمام سلطة العمق النظري للفلسفة الماركسية، فلا يجد هؤلاء إلا الاعتراف بأهمية الماركسية ومساهمتها الفعالة في تطور الفكر الإنساني عامة يقول برتراند "الفلسفة الماركسية هي آخر مذهب فلسفي عظيم أنتجه القرن التاسع عشر".
أما الذين يعتبرون النشاط الفلسفي يجب أن يساعد على إحداث تغيير في النظام الاجتماعي، والمناصرون لقضية التغيير الثوري للمجتمع نحو تشريكه، فيرون في الماركسية الأداة النظرية لرفع الوعي الطبقي لدى العمال من اجل تحويلهم لطبقة سائدة وحسم السلطة السياسية.

يصنف راسل ماركس بين القديسين لأنه بنظره مؤسس حركة قدسته وما زالت، وهو بذالك يحاول أن يعطي انطباع عن الماركسية كأنها عقيدة دينية جامدة لديها تنبؤاتها الطوباوية، لأنها تأكد على الحتمية التاريخية للتحول نحو الاشتراكية.
ويعتبر أن المؤثرات الرئيسية في تفكير ماركس ثلاث: أولها ارتباطه بالراديكاليين الفلسفيين أصحاب مذهب المنفعة (ريكاردو، مالتوس..)، وتأثره بالمذهب الهيجيلي ثانيا، أما العنصر الثالث فهو تبنيه لمادية القرن الثامن عشر.
وبعد أن يقدم الكاتب تفسير لكيفية تأثر ماركس بهذه العناصر الثلاث والإضافات النوعية التي قدمها، يخلص إلى أن النظرية الماركسية معقدة وعالية المستوى إلى حد بعيد، إلا انه ينتقد أنصار ماركس الذين، بزعمه، أوغلوا في التفكير النظري الفلسفي في مسائل كان من الأفضل تركها للبحوث العلمية التجريبية، ويضرب المثل بكتاب انجلس "ضد دوهرينغ" حول تفسيره لغليان الماء على أساس التناقض والنفي ونفي النفي। لكنه رغم ذلك يعتبر أن ماركس كان مصيبا – على الأرجح – عندما قال أن الاهتمامات العلمية العامة لمجتمع ما تعبر بقدر معين عن المصالح الاجتماعية للفئة المسيطرة عليه، ويضرب المثل بإحياء علم الفلك في عصر النهضة.
ثم يعود لينتقد النظرية الماركسية في العلوم معتبرا أنه يشوبها عيبان أساسيان "فمن الواضح أولا أن حل مشكلات جزئية خاصة في ميدان علمي معين لا يتعين أن يكون مرتبط على أي نحو بأي شكل من أشكال الضغوط الاجتماعية. وليس معنى ذلك بالطبع أن ننكر أن هناك حالات تعالج فيها مشكلة معينة استجابة لحاجة وقتية عاجلة. ولكن المشكلات العلمية في عمومها لا تحل بهذه الطريقة. وهذا يؤدي بنا إلى نقطة الضعف الثانية في التفسير المادي الجدلي، وأعني بها عدم اعترافه بالحركة العلمية بوصفها قوة مستقلة. ولنقل هنا، مرة أخرى، إن أحدا لا ينكر وجود روابط مهمة بين البحث العلمي وأمور أخرى تحدث في المجتمع. غير أن ممارسة العلم قد اكتسبت، بمضي الوقت، قوة دفع خاصة بها، تضمن لها قدرا معينا من الاستقلال الذاتي. وهذا يصدق على جميع أنواع البحث الموضوعي المنزه عن الغرض. وعلى ذلك، فبينما كان للمادية الجدلية قيمتها في إيضاح أهمية المؤثرات الاقتصادية في تشكيل حياة المجتمع، نجدها تخطئ حين تفرط في تبسيط الأمور على أساس هذه الفكرة الرئيسية."

من هذا الاقتباس الطويل يتضح لنا تناقض الكاتب في تقييمه للنظرية الماركسية فتارة يسمها بالتعقيد وعلو المستوى، ليعود فيتهمها بتبسيط الأمور، وهو في تناقضه هذا يحاول أن يظهر عيوب الماركسية لكن في نفس الوقت يسرع ليسد الباب على أي توضيحات ممكنة لتصوراته بقوله: "أن أحدا لا ينكر، وليس معنى ذلك"، وكذلك يظهر تهافت هذا الانتقاد كون الكاتب يتكلم بصيغة معممة لا يجدر "بفيلسوف" أن يتحدث بها، إذ يبدأ شرحه لعيوب الماركسية بقوله "من الواضح "دون أن يخبرنا كيف يتضح ذلك، وان "أن المشكلات العلمية لا تحل بهذه الطريقة" دون أن يقدم لنا الطريقة التي تحل بها المشكلات العلمية، هذا علما أته لا يعطي تصور واضح عن كيفية إشتغال الماركسية، إذ أن الماركسية تتبنى منظورا جدليا في تحليلها لكل الأمور سواء في العلم أو المجتمع وهي علاقة التأثير والتأثر، لنأخذ مثلا المثال الذي طرحه الكاتب حول تقدم علم الفلك، إن مصالح اجتماعية لطبقة معينة في المجتمع تفرض عليه اهتماما علميا معينا، ليعود هذا الاهتمام العلمي ليؤثر في المجتمع ككل، لندخل في صيرورة جدلية من التأثير والتأثر.
ويستمر الكاتب في تحليله المتناقض للماركسية بين الإعجاب وتأكيد صحتها تارة، وكيل الانتقادات ،التي أغلبها أفكار جاهزة مكرورة بفعل آلة الدعاية البرجوازية، تارة أخرى. وهذا يطرح تساؤلا كبيرا وهو إلى أي درجة استطاع الكاتب أن يظهر لنا جميع المدارس والتيارات الفلسفية بحيادية ودون أن يسقط عليها أفكاره المسبقة ومحكماته المستقبلية دون النظر إلى أهمية ودور هذا المدارس في لحظاتها التاريخية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق